0000
عدد المساهمات : 815 تاريخ التسجيل : 27/06/2012
| موضوع: المقالات دفق الخواطر حول (كلمة الحقِّ) الأربعاء يوليو 25, 2012 1:53 am | |
| دفق الخواطر حول (كلمة الحقِّ) - (كلمة الحقِّ) قذيفة ربَّانية في وجه الباطل، تُزلزل كيانه، وتحطم أركانَه، وتقهره وتُهلكه، حتَّى يصل الهلاك إلى دماغه؛ فيعطب ويتلف، يقول -تعالى-: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]. ومَن القاذف إلا الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿48﴾ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]، فهل ترى للباطل وأهله من باقيةٍ؟! وأي شيء سيبقى للباطل حتَّى يعيده ويبدؤه؟!
فلن يبق منه شيء أبدًا لأنَّه سيضمحل ويزول، فإنَّ الحق مجلجل أبلج، والباطل مهلهل لجلج. والحق ناطقٌ ساحقٌ ماحقٌ، والباطل مخبطٌ مخلطٌ زاهقٌ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
أخرج البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مكَّة وحول البيت ستون وثلاثمائة صنمًا، فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49].
لَوْ قَدْ رَأَيْتَ مُحَمَّدًا وَقَبِيلَهُ***بِالفَتْحِ يَوْمَ تُكَسَّرُ الأَصْنَامُ لَرَأَيْتَ دِينَ اللهِ أَضْحَى بَيِّنًا***وَالشِّرْكُ يَغْشَى وَجْهَهُ الإِظْلامُ
والحق وإن ناوأه المناوِئُ، وكادَه له الكائد، وحاول أن يمكرَ بأهله الماكر، وأراد أن يطمس صورته، فإنَّه سيأتي يومٌ يقول فيه مَن كان على ذلك الباطل: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51]، وسيعترف بأنَّه كان على باطلٍ وضلالٍ، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32].
2- (كلمة الحقِّ) كالمطر النَّازل من السَّماء؛ حيث تسيل به الأودية، وتفيض به العيون، وتسقى به الأرض بعد موتها، وينتفع بها الخلق منافِع شتَّى، وأمَّا الباطل فلو كان كثيرًا كثيفًا، فمآله إلى زوالٍ وسفالٍ واضمحلالٍ؛ {كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ} [الرَّعد: 17].
3- (كلمة الحق) ما كانت تُقال لِتُقمَع، بل لكي يظهر أثرُها ويسْطَع، ويزهق الباطل ويُقلع، ولئن ابتُلي صاحبها فلا بدَّ له من أصدقاء صدق يُدافعون عنه، ولا يُبقونه لظلم السجَّان، ولا لطغيان السلطان، ولا لتجاهل الأصحاب والخلاَّن.
وتأمَّل في حالةٍ رسول الله محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حينما كان يعرض الإسلام على القبائل والوفود، ويطلب منهم نصرتهم؛ وذلك لأنَّ كلمة الحقِّ عزيزةٌ، وصاحبها عزيزٌ، فلا بدَّ مِن نصرته وحمايته، وتأمل قول الفاروق عمر -رضي الله عنه-: "إنَّه لا ينفع التَّكلُّم بحقِّ لا نفاذ له"، فالحقُّ لا بدَّ له من قوَّة تَحْمِيه، وتزيح العقبات والعراقيل الَّتي تواجهه، وصدق الله القائل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
4- (كلمة الحق) ما هي إلاَّ جرأة نفسيَّة، وقوَّة داخليَّة، يدفعك إيمانُك الصَّادق لكي تقولها، بكلِّ ثباتٍ وإباء، ورسوخٍ وشموخ، وانتماء لها واستعلاء، تُشعرك بأنَّك (حرٌّ) في زمن كَثُرَ فيه العبيد، حيث انطلقت من عقال العبوديَّة لساحة وباحة الحريَّة فهنيئًا لك!
5- (كلمة الحقِّ) تحتاج لأشخاص يقولونها ويقولون بها، ويثبتون عليها ولا يتراجعون عنها؛ لأنَّها (حقٌّ)، والحق لا رجعة فيه.
6- (كلمة الحقِّ) إن صدرتْ عن رجلٍ أكبره النَّاس بها واحترموه وقدَّروه، فما بالك إن صدرتْ عن المرأة، فتحيَّةٌ كبيرةٌ لنساءٍ قائلاتٍ بالحقِّ كنَّ فيه أجرأ من الرِّجال!
7- كم من شخصٍ قال (كلمة الحقِّ) لم يخلص النيَّة فيها لله وحده، بل قالها يبتغي بها رضا النَّاس؛ ليكون ويكون! ويصعد على الأكتاف، وتهتف باسمه الجماهير! ولمَّا ابتلي وأوذي وكَّله الله إلى النَّاس فتخلَّّوا عنه! وكم مِن شخص ربَّاني قالها لإرضاء الله، بل في حالة إعراض النَّاس عنه، فحماه الله وعصَمه من أذى النَّاس، وإن أُوذي حباه الله بمحبَّة النَّاس ومناصرتهم له ولكلمته.
8- (كلمة الحقِّ) لها ضريبةٌ اشتكى منها كثيرٌ مِمَّن قالها، وهي بُعد كثيرٍ من الناَّس عن قائلها، إمَّا خوفًا مِمَّا سيحصل لهم من أذى السُّلطان أوِ النَّاس، أو أنَّ كثيرًا من النَّاس لا يُعجبهم الصّدع بالحقِّ؛ لأنَّ لسان حالهم كلسان حال من قال: {مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24]، ومِمَّا جاء عن أبي ذر قوله: (مَا زَالَ بِي الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى مَا تَرَكَ الْحَقُّ لِي صَدِيقًا)، فكلمةُ الحقِّ ثقيلةٌ على النفس، ولهذا لا يتحمَّلها إلا القليل، لكن إن أرضيت بها الرحمن، فسيجعل لك من بعد عُسْرٍ يُسرًا.
9- (كلمة الحقِّ) قد تكون سهلةً ميسَّرةً إن كانتْ لا تغضب مَن قلتها أمامهم، لكنَّها مُرَّة للغاية إن قلتها أمام من تظنُّ أنَّهم سيأبونها ويُعرضون عنها، ويثنون أعطافهم نكاية بصاحبها، لكن حسبك أن تقرأ ما قاله الصَّحابي الجليل أبو ذر -رضي الله عنه-: أمرني خليلي رسول الله -صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم- بسبع: «أمرني بحبِّ المساكين والدُّنوَّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرَّحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول بالحقِّ وإن كان مرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائمٍ، وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنَّهنَّ من كنز تحت العرش» [حسَّنه الألباني 5187 في تخريج مشكاة المصابيح]. | |
|
0000
عدد المساهمات : 815 تاريخ التسجيل : 27/06/2012
| موضوع: مصلحة التديُّن أم تدين المصلحة؟! الأربعاء يوليو 25, 2012 1:56 am | |
| مصلحة التديُّن أم تدين المصلحة؟! الحمدُ لله وحده، وسَمِعَ الله لمن حمده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده.
أمَّا بعدُ:
فأثناء مسيرة الإنسان في هذه الحياة لا ينفكُّ -طوعًا أو كرهًا- عن مطالعة طبائع النَّاس، وطرائق الشُّعوب، وتعاملات الأمم بعضها مع بعض، غير أنَّ الهمَّ الَّذي يحتوي مجامع قلب كلِّ مؤمنٍ، حينما يُشاهد ترهل حالة التَّديُّن داخل المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة، وكذا في أقاليم إقامة الجاليات الإسلاميَّة في الدُّول غير الإسلاميَّة! لقد صار كثيرٌ من النَّاس يتعاملون مع الدِّين لأجل مصالحهم الخاصَّة، وذلك لأنَّ التديُّن عندهم عادةٌ لا عبادةٌ، وعرفًا وتقاليد لا عقيدة وشريعة، وتديُّن مصلحة فحسب، لا قيامًا بواجب التَّديُّن ومصلحة القيام به!
لا جرم أنَّ ما يدعو إليه كثيرٌ من الناس الآن في طبيعة تعامُلهم مع التديُّن يُخالفُ تمامًا ما كان يدعو إليه وينصاع له جيلُ الرَّعيل الأوَّل من صحابة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الَّذين تشرفوا بالقرآن المُنزَّل في وقتهم، فلم يكنْ هذا الدِّينُ عندهم إلاَّ على حالته الَّتي عُرِف بها: (الدِّين المنَزَّل)، بعيدًا عن أن يكونَ مِن قبيل المبدَّل أو المؤوَّل، ولهذا نرقب حالة سماع الصَّحابة للوحي، فلا تنطق ألسنتهم إلا بقولهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
إنَّ مَنْ فَهِم حقيقة الإسلام يعلم أنَّ هذا الدِّين تكمُن رَوْعتُه في حيويته، وطلاوته في فهم معاني آياته، وسعادة أمَّة الإسلام بالتزام ما أنزله الله -تعالى- على رسوله محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذ لو أنَّ كل شخص أخَذ مِن الدِّين ما يشتهيه قلبُه، وتهواه نفسه؛ لما شعر بطعم التَّديُّن الحقيقي الَّذي يشعر به كلُّ مَنْ تمسَّك بأهداب الدِّين، حيث يشعر بطعم الإيمان وحلاوته الَّتي لا يعرفها إلا من ذاقها بروحه ونفسه!
- تقريرٌ وتنويرٌ:
لقد قرَّر عُلماء الإسلام أنَّ كلَّ خيْرٍ للعباد يكْمُن بطاعة الله -عزَّ وجلَّ-، وكلَّ شرٍّ فإنَّه يجتمع حول معصيته -سبحانه وتعالى-.
إنَّ شرائع الإسلام لم تُشرَع إلا لإسعاد البشريَّة؛ ليستشعروا أثناء تطبيقهم لها سرورَ أنفسهم وحُبُورها، ومُتْعَة حياتهم وهناءها، وأنَّ مَنْ أَعْرَض عن ذِكْر الرَّحمن؛ فالشَّيطانُ قرينُه.
قال -تعالى-: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴿٣٦﴾ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزُّخرف: 36-37].
ومن خالف شِرعة الإسلام فسيكون في حياة صعبةٍ، ونفسيَّةٍ تعيسةٍ مُلازمةٍ له. فقد قال -تعالى-: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ﴿124﴾ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ} [طه: 124-126].
إذا عُلِم هذا، فالمؤمن لا يعيش في هذه الحياة إلا ببسمة الإيمان، وتذوقه لحلاوة عبادة الإحسان، وتزكية قلبه بمطالَعة القرآن، ومشاهدة بديع الأكوان، ويرى أنَّ قيامَه بهذه العبادة سبيل سعادته، وأنَّ إعراضَه عنها سبب ضلاله وشقائه، وأنَّ كلَّ خيْرٍ فيما شَرَعَهُ الله تعالى، وكلُّ شرٍّ فيما حذَّر منه رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فالمصلحة كلّ المصلحة للنَّفس البشريَّة كامِنَةٌ في شريعة الإسلام.
- شريعة الإسلام يقوم أساسها على المصلحة:
إنَّ هذه الشريعة اعتَبَرَتِ المصلحة بجوهرها المقاصدي، ولم تُهمل مصالح العباد في الدَّارين، فليست المصلحة الحقيقيَّة للنَّفس البشريَّة خارجةً عن مدارك المنظور الإسلامي، فلقد جاءت الشَّريعة بكُلِّ مصلحة لنا، وأبْعدَتْنا عن كلِّ مفسدة قد تضرنا، حتَّى لو كان في المفسدةِ جَلْب مصلحة؛ لأنَّ دَرْءَ المفاسد مُقَدَّم على جلب المصالح.
يقول الإمام الغزالي: "أمَّا المصلحة فهي عبارةٌ في الأصل عن جلْبِ منفعةٍ أو دفع مضرَّة؛ ولسنا نعني بها ذلك؛ فإنَّ جلب المنفعة أو دفع المضرَّة مقاصدُ الخَلْق؛ وصلاحُ الخَلْق في تحصيل مقاصدهم، لكنَّا نعني بالمصلحة: المحافظةَ على مقصود الشَّرع" [1].
ويقول شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة: "والقولُ الجامع: أنَّ الشَّريعةَ لا تُهمل مصلحةً قط، بل اللهُ -تعالى- قد أكْمَل لنا الدِّينَ وأَتَمَّ النِّعْمَة" [2].
ويقول الإمامُ ابنُ القَيِّم: "إنَّ الشريعةَ مبناها وأساسُها على الحِكَم ومصالِح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلّها، ورحمةٌ كلّها، ومصالِحُ كلُّها، وحكمةٌ كلها، فكلُّ مسألة خرجتْ عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرَّحمة إلى ضِدِّها، وعن المصلحةِ إلى المفْسَدَةِ، وعن الحِكْمة إلى العَبَث، فلَيْسَتْ من الشَّريعة، وإن أُدْخِلَتْ فيها بالتَّأويل" [3].
وقال الإمام الشَّاطبيُّ: "المعلومُ من الشَّريعة أنَّهَا شُرِعَتْ لمصالح العباد، فالتكليفُ كلُّه، إمَّا لدَرْءِ مفْسدةٍ، وإما لجلْبِ مصلحة، أو لَهُما معًا" [4].
هذا نَزْرٌ يسير مِمَّا سطَّره عددٌ من مشاهير علماء الإسلام؛ كالغزالي، وابن تيميَّة، وابن القيم، والشَّاطبي، حيال هذه القضيَّة الَّتي أوضحتْ كمال هذا الدين، وأنَّه دينٌ أتى للبشرية بكُلِّ ما يسعدها من مصالحهم الَّتي قد ارتضاها لهم اللهُ -تبارك وتعالى- فكلُّ ما جاء في شِرعته فهو خيْرٌ ومصلحة للعباد في الدَّارَيْن.
إذا عَلِمَ العبدُ أنَّ الشريعة لن تُقَدِّم له إلا كُلَّ نافع ومصلحة، ولن تُبعد عنه إلا كلَّ ضارٍّ له ومفسدة، وأنَّ لهذه الشَّريعةِ الإسلامية مقاصدَ ساميةً، وأسراراً بديعة -فإنَّه سيُدرك عظمتَها وروعتها، لكن للخطر المنْهَجيَّ في طريقة التصوُّر والاستدلال- ظَنَّ بعضُ الأشخاص أنَّ مصلحتَهم تكْمُن في اختياراتهم النَّفسيَّة ورغباتهم الشَّخصيَّة، ولرُبَّما رأى أحدهم الخير في ارتكاب ما يظنُّه مصلحةً؛ مسوغًا ذلك بأنَّه: قضيَّة خيريَّة، وضرورة شرعيَّة، لكنَّها في حقيقةِ أمْرِها لا تنْفَصِل عن أن تكونَ مفسدةً كبرى في حقِّه، ولربما يُخالف نصوص الشَّرع بحجَّة المصلحة؛ فيقع في المفسدة الكبرى، وهي: مُخالَفة شريعة ربِّ العالمين، مع أنَّه -سبحانه وتعالى- يعلم سِرَّ المصلحة فهو القائل: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، ويقول -عزَّ مِن قائل-: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وذلك لأنَّ "المصالح الَّتي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حقّ معرفتها إلا خالِقُها وواضعها، وليس للعبد بها علمٌ إلا مِن بعض الوجوه، والَّذي يخفى عليه منها أكثرُ مِن الَّذي يبدو له؛ فقد يكون ساعيًا في مصلحة نفسه مِن وجهٍ لا يُوَصِّله إليها، أو يوصِّله إليها عاجلًا لا آجلًا، أو يوصله إليها ناقصةً لا كاملةً، أو يكون فيها مفسدةٌ تربو في الموازنة على المصلحة؛ فلا يقوم خَيْرُها بشرها"؛ كما يقول الإمام الشَّاطبي [5].
| |
|
0000
عدد المساهمات : 815 تاريخ التسجيل : 27/06/2012
| موضوع: سنن نبوية الصبر الأربعاء يوليو 25, 2012 2:01 am | |
| الصبر الخطبة الأولى
قال -تعالى-: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]. جرت سنَّة الله -تعالى- أنَّ الأنبياء ومن سار على دربهم هم أشدُّ النَّاس بلاءً، والصَّبر هو ملجأ الأنبياء وأصحاب البلاء في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
فما الصَّبر؟ وهل نحن بحاجة إلى الصَّبر؟ وما أنواعه؟ وما موقفنا منه؟
أمَّا الصَّبر: فهو حبس النَّفس على ما يقتضيه الشَّرع، في عقولنا فنوقن بقصورها عن الإحاطة بحكمة الله -عزَّ وجلَّ- فيما قضى وقدر: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. وفي ألسنتنا فلا نتجاوز ما أخبر به الحقُّ عن أوليائه عند المصيبة قولهم: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156]. وفي الجوارح فلا تظهر التَّسخُّط للحديث: «ليس منَّا من لطم الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» [1]. وللحديث: «إنَّما الصَّبر عند الصَّدمة الأولى» [2].
وأما هل نحن بحاجة إلى الصَّبر؟
1- فنعم؛ ذلك لأنَّ الدُّنيا دار بلاء وهموم وغموم تذيب القلب وتطحن البدن فيعقوب -عليه السَّلام- فقد بصره من كثرة بكائه لفقده يوسف -عليه السَّلام- فلم يجد غير الشَّكوى إلى الله والصَّبر ملجأ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّـهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]. سئل الإمام علي: ما أشدُّ جند الله -عزَّ وجلَّ-؟ فقال: الجبال، والحديد يقطع الجبال فالحديد أقوى، والنَّار تذيب الحديد فالنَّار أقوى، والماء يطفئ النَّار فالماء أقوى، والسَّحاب يحمل الماء فالسَّحاب أقوى، والرِّيح يعبث بالسَّحاب فالرِّيح أقوى، والإنسان يتكفى الرِّيح بثوبه ويده فالإنسان أقوى والنَّوم يغلب الإنسان فالنَّوم أقوى، والهم يغلب النَّوم فالهمّ أقوى فأقوى جند الله -عزَّ وجلَّ- الهمّ".
2- ونحن بحاجة إلى الصَّبر؛ لأنَّ مشيئة الله نافذةٌ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومن أنت حتَّى تعترض على قضاء الله وأمره جاء في الحديث القدسي: «عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد فإذا رضيت عما أريد كفيتك ما تريد وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد».
وأمَّا أنواع الصَّبر:
الصَّبر على الطَّاعة: صلتنا بالله ليست صلة أيَّام ومواسم كالَّذين لا يعرفون الله إلا في رمضان فإذا خرج رمضان خرجوا كالأنعام إلى شهواتهم. غايتنا أن نلقى الله -تعالى- عن كلمة لا إله إلا الله محمَّد رسول الله، قال -سبحانه-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] أي الموت، وقال: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. وكلَّما ازداد العبد صبرًا على الطَّاعة ازداد حبًّا لها وشوقًا فهذا أحد الصَّالحين يفرش له فراشه بعد صلاة العشاء فيضع يده عليه ويقول: "والله إنك للين ولكن فراش الجنَّة ألين منك ثمَّ يقوم إلى صلاته إلى الفجر، حتَّى يسأل عمر ما أحبُّ شيء إلى نفسه؟ فيقول: "ضرب السَّيف وصيام بالصَّيف"، ورسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدَّرجات؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة، فذلكم الرِّباط» [3].
أ- قبل العمل: بأن تكون النِّيَّة خالصةٌ لله: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات» [4].
ب- عند العمل: فلا يكسل ولا يفتر: «أحبُّ الأعمال إلى الله -تعالى- أدومها وإن قل» [5].
ج- وعند الفراغ منه فلا يمنُّ به ولا يطلب به سمعةً: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
الصَّبر عن المعصية: فتحفظ نفسك عن كلِّ ما يدنيك من المعصية في بصرك، وفي لسانك: «فأخذ بلسانه، قال: كفَّ عليك هذا. فقلت: يا نبيَّ الله وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمُّك يا معاذ، وهل يكبُّ النَّاس في النَّار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» [6]. وفي بطنك فلا يدخلها حرام. وفي فرجك فلا تزني للحديث: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنَّة» [7].
رحم الله أحد الأصحاب وكان يشعل سراجًا ثمَّ يضع إصبعه عليه ويقول: "حس حس ألم تفعل ذنب كذا، ألم تفعل ذنب كذا".
الصَّبر على المصائب: والمسلم موقنٌ بقدم ما كتبه الله على عبيده للحديث: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة» [8] ولله درُّ الشافعي إذ يقول:
دع الأيَّام تفعل ما تشاء***وطب نفسًا إذ حكم القضاء
ولا تجـزع لحادثة الليالي***فما لحوادث الدُّنيا بقاء
وكن رجلًا على الأهوال جلدًا***وشيمتك السَّماحة والوفاء
وأرض الله واسعـةٌ ولكن***إذا نزل القضا ضاق الفضاء
فهذا أيوب -عليه السَّلام- ابتلي في نفسه وولده وماله وتسأله زوجه أن يسأل الله كشف الضُِّّر وهو النَّبيُّ المستجابة دعوته فيقول لها: "كم مضى علينا في عافية "فتقول: "ستين سنة"، فيقول لها: فإني أستحي أن أسأل ربِّي العافية وما بلغنا في البلاء ما بلغناه في عافية". فالصَّحة أعوام والمرض أيَّام، والعافية سنوات والبلاء ساعات وكلُّها تمضي وتكون شيئًا من الماضي كما قال الشَّاعر:
يا صاحب الهمِّ إنَّ الهمَّ منفرج***أبشر بخير فإن الكاشف الله
سهرت عيون و نامت عيون***في أمور تكون أو لا تكون
إنَّ الَّذي كفاك بالأمـس همًّا***يكفيك غدًا مـا سيكون
وأما موقفنا من الصبر:
فعلينا أن نوقن أنَّ العاقبة للصَّابرين المتَّقين: فهذا يوسف -عليه السَّلام- تآمر عليه إخوته فصبر، وألقي في البئر فصبر، وبيع بيع العبيد وهو الحرُّ فصبر، وعمل خادمًا في قصر وهو الشَّريف فصبر، واتهم في عرضه وهو العفيف فصبر، وسجن وهو البريء فصبر، فأبلغه الله بعد ذلك المنزلة العالية حيث جعل أرزاق النَّاس وحاجتهم إليه في المؤونة حتَّى جاءه إخوته بائسين محتاجين الذين قالوا بالأمس: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف: 9]. هم الَّذين يقولون اليوم: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّـهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88].
واعلم أنَّه لا صبر إلا بيقينٍ بالله وحكمته وعدله، وباليوم الآخر وما فيه من جزاءٍ وحسابٍ عادلٍ للحديث: «ما من عبدٍ تصيبه مصيبةٌ فيقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. اللهمَّ أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها» [9].
ومن الدُّعاء المأثور عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلَّم- قوله: «ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصيبات الدُّنيا» [10].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري 1294.
[2] البخاري 1283 ومسلم 926.
[3] مسلم 251.
[4] البخاري 1.
[5] البخاري 6464 ومسلم 783 واللفظ لمسلم.
[6] التِّرمذي 2616 وصحَّحه الألباني.
[7] البخاري 6474.
[8] رواه مسلم 2653.
[9] أخرجه مسلم 918.
[10] أخرجه التِّرمذي 3502 وحسَّنه الألباني.
| |
|