( النُّورُ ):
([اعْلَمْ- نَوَّرَ اللهُ بَصِيرَتَكَ- أنَّ] النَّصَّ قدْ وَرَدَ بِتَسْمِيَةِ الربِّ نوراً، وبأنَّ لهُ نوراً مضافاً إليهِ، وبأنَّهُ نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ، وبأنَّ حِجَابَهُ نورٌ، فهذهِ أربعةُ أنواعٍ:
- فالأوَّلُ: يُقَالُ عليهِ سُبْحَانَهُ بالإطلاقِ؛ فإنَّهُ النُّورُ الهادِي.
- والثاني: يُضَافُ إليهِ كما يُضَافُ إليهِ حَيَاتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَعِزَّتُهُ وقُدْرَتُهُ وعِلْمُهُ، وَتَارَةً يُضَافُ إلى وجهِهِ، وتارةً يُضَافُ إلى ذاتِهِ:
- فالأوَّلُ: إِضَافَتُهُ [إلى وجهِهِ الكريمِ]؛ كقولِهِ: ((أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ)) ([1]). وقولِهِ: ((نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ)).
- والثاني: إضافتُهُ إلى ذاتِهِ؛ كقولِهِ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، وقولِ ابنِ عبَّاسٍ: " ذَلِكَ نُورُهُ الذي إذا تَجَلَّى بهِ "، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو: ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ)) الحديثَ([2]).
- والثالثُ: وهوَ إضافةُ نُورِهِ إلى السَّمَاواتِ والأرضِ، كقولـِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [ النور : 35 ].
- والرابعُ: كقولِهِ: ((حِجَابُهُ النُّورُ)).
فهذا النورُ المُضَافُ إليهِ يَجِيءُ على أحدِ الوجوهِ الأربعةِ، والنورُ الذي احْتَجَبَ بهِ سُمِّيَ نُوراً وَنَاراً، كما وَقَعَ التَّرَدُّدُ في لفظِهِ في الحديثِ الصحيحِ، حديثِ أبي موسَى الأَشْعَرِيِّ. وهوَ قولُهُ: ((حِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ)) ([3])؛ فإنَّ هذهِ النارَ هيَ نورٌ، وهيَ التي كَلَّمَ اللهُ كَلِيمَهُ مُوسَى فيها، وهيَ نارٌ صافيَةٌ لها إشراقٌ بلا إحراقٍ.
فالأقسامُ ثلاثةٌ:
- إشراقٌ بلا إحراقٍ: كنورِ القمرِ.
- وإحراقٌ بلا إشراقٍ: وهيَ نارُ جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّهَا سوداءُ مُحْرِقَةٌ لا تُضِيءُ.
- وإشراقٌ بإحراقٍ: وهيَ هذهِ النارُ المضيئةُ، وكذلكَ نُورُ الشمسِ لهُ الإشراقُ والإحراقُ.
فهذا في الأنوارِ المشهودةِ المخلوقةِ، وحجابُ الربِّ تباركَ وتَعَالَى نورٌ، وهوَ نارٌ. وهذهِ الأنواعُ كلُّهَا حقيقةٌ بحسَبِ مراتِبِهَا، فنورُ وجهِهِ حقيقةٌ لا مجازٌ.
وإذا كانَ نُورُ مخلوقاتِهِ كالشمسِ والقمرِ والنارِ حقيقةً، فكيفَ يكونُ نورُهُ الذي نسبةُ الأنوارِ المخلوقةِ إليهِ أَقَلُّ منْ نسبةِ سراجٍ ضعيفٍ إلى قرصِ الشمسِ، فكيفَ لا يكونُ هذا النورُ حقيقةً)([4])، ([و] الربُّ سبحانَهُ أَخْبَرَ أنَّهُ لَمَّا تَجَلَّى للجبلِ وَظَهَرَ لهُ أَمْرٌ ما منْ نورِ ذاتِهِ المقدَّسَةِ صارَ الجبلُ دَكًّا؛ فَرَوَى حُمَيْدٌ عنْ ثابتٍ، عنْ أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، أَشَارَ أنسٌ بطرفِ أصبعِهِ على طرفِ خِنْصَرِهِ، وكذلكَ أَشَارَ ثابتٌ، فقالَ لهُ حُمَيْدٌ الطويلُ: ما تُرِيدُ يا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ فَرَفَعَ ثابتٌ يَدَهُ، فَضَرَبَ صدرَهُ ضربةً شديدةً وقالَ: مَنْ أَنْتَ يا حُمَيْدُ، يُحَدِّثُنِي أنسٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتقولُ أنتَ: ما تُرِيدُ بهذا؟! ([5]) ومعلومٌ أنَّ الذي أَصَارَ الجبلَ إلى هذهِ الحالِ ظهورُ هذا القدْرِ منْ نورِ الذاتِ لهُ بلا واسطةٍ، بلْ تَجَلَّى رَبُّهُ لهُ سبحانَهُ.
[فَصْلٌ]:
... [وَقَدْ] ثَبَتَ في الصحيحَيْنِ عن ابنِ عَبَّاسٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ إذا قامَ مِن الليلِ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) الحديثَ ([6]). وهوَ يَقْتَضِي أنَّ كونَهُ نورَ السَّمَاواتِ والأرضِ مُغَايِرٌ لكونِهِ ربَّ السَّمَاواتِ والأرضِ، ومعلومٌ أنَّ إِصْلاحَهُ السَّمَاواتِ والأرضَ بالأنوارِ وهدايتَهُ لمَنْ فيهما هيَ رُبُوبِيَّتُهُ، فَدَلَّ على أنَّ مَعْنَى كونِهِ نورَ السَّمَاواتِ والأرضِ أَمْرٌ وراءَ رُبُوبِيَّتِهِمَا...
و[هذا]... الحديثُ تَضَمَّنَ ثلاثةَ أُمُورٍ شاملةٍ عامَّةٍ للسماواتِ والأرضِ، وهيَ رُبُوبِيَّتُهُمَا وقَيُّومِيَّتُهُمَا ونورُهُمَا، فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ ربًّا لهما وَقَيُّوماً لهما وَنُوراً لهما أَوْصَافٌ لهُ، فَآثَارُ رُبُوبِيَّتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ ونورِهِ قائمةٌ بهما... وَمُقْتَضَاهَا هوَ المخلوقُ المُنْفَصِلُ، وهذا كما أنَّ صفةَ الرحمةِ والقدرةِ والإرادةِ والرِّضَى والغضبِ قائمةٌ بهِ سُبْحَانَهُ، والرحمةُ الموجودةُ في العالمِ والإحسانُ والخيرُ والنعمةُ والعقوبةُ آثارُ تلكَ الصِّفَاتِ، وهيَ منفصلةٌ عنهُ، وهكذا عِلْمُهُ القائمُ بهِ هوَ صِفَتُهُ، وأمَّا علومُ عبادِهِ فمِنْ آثارِ عِلْمِهِ، وَقُدْرَتُهُم منْ آثارِ قدرتِهِ.
فَالْتَبَسَ هذا المَوْضِعُ على مُنْكِرِي نورِهِ سبحانَهُ، وَلَبَّسُوا على الجُهَّالِ فَقَالُوا: كلُّ عاقلٍ يَعْلَمُ بالبديهةِ أنَّ اللهَ سبحانَهُ ليسَ هوَ هذا النورَ الفائضَ منْ جِرمِ الشمسِ والقمرِ والنارِ، فلا بُدَّ مِنْ حملِ قولِهِ: ((نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) على معنَى أنَّهُ: مُنَوِّرُ السَّمَاواتِ والأرضِ، وهادٍ لأهلِ السَّمَاواتِ والأرضِ...
فنقولُ...: أَسَأْتُم الظنَّ بكلامِ اللهِ ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ حيثُ فَهِمْتُمْ أنَّ حقيقتَهُ وَمَدْلُولَـهُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ هوَ هذا النورُ الواقعُ على الحِيطَانِ والجدرانِ (7). وهذا الفَهْمُ الفاسدُ هوَ الذي أَوْجَبَ لكُمْ إِنْكَارَ حقيقةِ نُورِهِ وجحدَهُ، وَجَمَعْتُمْ بينَ الفَهْمِ الفاسدِ وإنكارِ المعنَى الحقِّ، وليسَ ما ذَكَرْتُمْ من النورِ هوَ نورَ الربِّ القائمَ بهِ الذي هوَ صِفَتُهُ، وإنَّمَا هوَ مخلوقٌ لهُ مُنْفَصِلٌ عنهُ، فإنَّ هذهِ الأنوارَ المخلوقةَ إنَّمَا تكونُ في محلٍّ دُونَ مَحَلٍّ، فالنورُ الفائضُ عن النارِ أو الشمسِ أو القمرِ إنَّمَا هوَ نورٌ لبعضِ الأرضِ دُونَ بعضٍ، فإنَّا نَعْلَمُ أنَّ نورَ الشمسِ الذي هوَ أعظمُ منْ نورِ القمرِ والكواكبِ والنارِ ليسَ هوَ نورَ جميعِ السَّمَاواتِ والأرضِ ومَنْ فِيهِنَّ.
فمَن ادَّعَى أنَّ ظاهرَ القرآنِ وكلامِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أنَّ نورَ الربِّ سبحانَهُ هوَ هذا النورُ الفائضُ فقدْ كَذَبَ على اللهِ ورسولِهِ.
فلوْ كانَ لفظُ النصِّ: اللهُ هوَ النورُ الذي تُعَايِنُونَهُ وتَرَوْنَهُ في السَّمَاواتِ والأرضِ لَكَانَ لِفَهْمِ هؤلاءِ وَتَحْرِيفِهِم مُسْتَنَدٌ ما. أمَّا ولفظُ النصِّ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، فمِنْ أينَ يَدُلُّ هذا بوَجْهٍ ما أنَّهُ النورُ الفائضُ عنْ جرمِ الشمسِ والقمرِ والنارِ؟!
فإخراجُ نورِ الربِّ تَعَالَى عنْ حقيقتِهِ وحملُ لفظِهِ على مجازِهِ إنَّمَا اسْتَنَدَ إلى هذا الفَهْمِ الباطلِ الذي لمْ يَدُلَّ عليهِ اللفظُ...
[و] رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ هذهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ((أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)). ولمْ يَفْهَمْ منها أنَّهُ هوَ هذا النورُ المُنْبَسِطُ على الحيطانِ والجدرانِ، ولا فَهِمَهُ الصحابةُ عنهُ، بلْ عَلِمُوا أنَّ لِنُورِ الربِّ تَعَالَى شَأْناً آخرَ هوَ أعظمُ منْ أنْ يكونَ لهُ مثالٌ.
قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: " ليسَ عندَ ربِّكُم ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ منْ نورِ وجهِهِ ".
فهلْ أَرَادَ ابنُ مسعودٍ أنَّ هذا النورَ الذي على الحيطانِ وَوَجْهِ الأرضِ هوَ عَيْنُ نورِ الوجهِ الكريمِ؟!!
أو فَهِمَ هذا عَنْهُم ذُو فَهْمٍ مستقيمٍ؟!!
فالقرآنُ والسُّنَّةُ وأقوالُ الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم مُتَطَابِقَةٌ يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَتُصَرِّحُ بالفرقِ الذي بينَ النورِ الذي هوَ صِفَتُهُ، والنورِ الذي هوَ خَلْقٌ منْ خلقِهِ، كما تُفَرِّقُ بينَ الرحمةِ التي هيَ صفتُهُ، والرحمةِ التي هيَ مخلوقةٌ، ولَكِنْ لَمَّا وُجِدَتْ في رحمتِهِ سُمِّيَتْ بِرَحْمَتِهِ، وكما أنَّهُ لا يُمَاثِلُ في صفةٍ منْ صفاتِهِ خَلْقَهُ، فكذلكَ نُورُهُ سُبْحَانَهُ.
فأيُّ نورٍ من الأنوارِ المخلوقةِ إذا ظَهَرَ للعالمِ وَوَاجَهَهُ أَحْرَقَهُ؟!!
وأيُّ نورٍ إذا ظَهَرَ منهُ للجبالِ الشامخةِ قَدْرٌ ما جَعَلَهَا دَكًّا؟!!
وإذا كانتْ أنوارُ الحُجُبِ لوْ دَنَا جَبْرَائِيلُ في أَدْنَاهَا لاحترقَ، فما الظنُّ بنورِ الذَّاتِ؟!!)([8])
(فنسبةُ الأنوارِ كُلِّهَا إلى نورِ الربِّ كنسبةِ العلومِ إلى علمِهِ، والقُوَى إلى قوَّتِهِ، والغِنَى إلى غِنَاهُ، والعزَّةِ إلى عِزَّتِهِ، وكذلكَ باقِي الصِّفَاتِ.
والعبدُ إذا سَمَا بَصَرُهُ صُعُوداً إلى نورِ الشمسِ غَشِيَ دونَ إدراكِهِ وَتَعَذَّرَ عليهِ غايَةَ التَّعَذُّرِ!! وأيُّ نسبةٍ لنورِ الشمسِ إلى نورِ خالِقِهَا وَمُبْدِعِهَا؟!!
وإذا كانَ نورُ البرقِ يَكَادُ يَلْتَمِعُ البصرَ وَيَخْطَفُهُ، ولا يَقْدِرُ العبدُ على إدراكِهِ، فكيفَ بنُورِ الحجابِ؟!! فكيفَ بما فَوْقَهُ؟!!
والأمرُ أعظمُ منْ أنْ يَصِفَهُ واصِفٌ، أوْ يَتَصَوَّرَهُ عَاقِلٌ، فَتَبَارَكَ اللهُ ربُّ العالَمِينَ الذي أَشْرَقَت الظُّلُمَاتُ بنورِ وجهِهِ، وَعَجَزَت الأفكارُ عنْ إدراكِ كُنْهِهِ، وَدَلَّت الآياتُ وَشَهِدَت الفِطَرُ باستحالةِ شِبْهِهِ، فَلَوْلا وَصْفُ نفسَهُ لعبادِهِ لَمَا أَقْدَمُوا على وصفِهِ، فهوَ كما وَصَفَ نفسَهُ وَأَثْنَى على نفسِهِ، وَفَوْقَ ما يَصِفُهُ الواصفونَ)([9]).
[فَصْلٌ]:
(وَلَمَّا كانَ النورُ منْ أسمائِهِ الحسنى وصفاتِهِ كانَ دِينُهُ نُوراً، ورسولُهُ نوراً، وكلامُهُ نوراً، ودارُهُ نوراً يَتَلأْلأُ، والنورُ يَتَوَقَّدُ في قلوبِ عبادِهِ المؤمنينَ، وَيَجْرِي على أَلْسِنَتِهِم، وَيَظْهَرُ على وُجُوهِهِم)([10]).
(فَدِينُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ نورٌ، وكتابُهُ نورٌ، ورسولُهُ نورٌ، ودارُهُ التي أَعَدَّهَا لأوليائِهِ نورٌ يَتَلأْلأُ، وهوَ تَبَارَكَ وتَعَالَى نورُ السماواتِ والأرضِ، ومِنْ أسمائِهِ النورُ، وَأَشْرَقَت الظلماتُ لنورِ وجهِهِ، وفي دعاءِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الطائِفِ: ((أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ، أَوْ يَنْـزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ)) ([11]).
وقالَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ليسَ عندَ رَبِّكُمْ ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السماواتِ والأرضِ منْ نورِ وجهِهِ. وفي بعضِ ألفاظِ هذا الأثرِ: نورُ السَّمَاواتِ منْ نورِ وجهِهِ.
ذَكَرَهُ عثمانُ الدَّارِمِيُّ.
وقدْ قالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]. فإذا جاءَ تباركَ وتَعَالَى يومَ القيامةِ للفَصْلِ بينَ عبادِهِ، وَأَشْرَقَتْ بنورِهِ الأرضُ، وليسَ إشراقُهَا يومئذٍ بشمسٍ ولا قمرٍ؛ فإنَّ الشمسَ تُكَوَّرُ، والقمرَ يُخْسَفُ، وَيَذْهَبُ نُورُهُمَا، وَحِجَابُهُ تباركَ وتَعَالَى النورُ.
قالَ أبو مُوسَى: قامَ فِينَا رسولُ اللهِ بخمسِ كلماتٍ فقالَ: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)) ([12]). ثُمَّ قَرَأَ أبو عُبَيْدَةَ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8].
فاستنارةُ ذلكَ الحجابِ بنورِ وجهِهِ، ولَوْلاهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهِهِ ونورُه ما انْتَهَى إليهِ بصرُهُ، ولهذا لَمَّا تَجَلَّى تَبَارَكَ وتَعَالَى للجَبَلِ، وَكَشَفَ من الحجابِ شَيْئاً يَسِيراً سَاخَ الجبلُ في الأرضِ وَتَدَكْدَكَ، ولمْ يَقُمْ لِرَبِّهِ تباركَ وتَعَالَى. وهذا معنَى قولِ ابنِ عَبَّاسٍ في قولِهِ سبحانَهُ وتَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، قالَ: ذلكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إذا تَجَلَّى بنورِهِ لمْ يَقُمْ لهُ شيءٌ، وهذا مِنْ بديعِ فهمِهِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهُ، ودقيقِ فِطْنَتِهِ، كيفَ لا وَقَدْ دَعَا لهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُعَلِّمَهُ اللهُ التأويلَ.
فالربُّ تَبَارَكَ وتَعَالَى يُرَى يومَ القيامةِ بالأبصارِ عِياناً، ولكنْ يَسْتَحِيلُ إدراكُ الأبصارِ لهُ وإنْ رَأَتْهُ، فالإدراكُ أمرٌ وراءَ الرؤيَةِ، وهذهِ الشمسُ - وللهِ المَثَلُ الأَعْلَى - نَرَاهَا ولا نُدْرِكُهَا كما هيَ عليهِ، ولا قَرِيباً منْ ذلكَ.
ولذلكَ قالَ ابنُ عبَّاسٍ لِمَنْ سَأَلَهُ عن الرؤيَةِ، وَأَوْرَدَ عليهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، فقالَ: أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قالَ: بَلَى، قالَ: أَفَتُدْرِكُهَا؟ قالَ: لا، قالَ: فاللهُ تَعَالَى أَعْظَمُ وَأَجَلُّ.
وقدْ ضَرَبَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى النورَ في قلبِ عبدِهِ مثلاً لا يَعْقِلُهُ إلاَّ العالِمونَ، فقالَ سبحانَهُ وتَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35]. قالَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ: مَثَلُ نُورِهِ في قلبِ المسلمِ، وهذا هوَ النورُ الذي أَوْدَعَهُ في قلبِهِ منْ معرفتِهِ وَمَحَبَّتِهِ والإيمانِ بهِ وَذِكْرِهِ، وهوَ نورُهُ الذي أَنْزَلَهُ إليهم، فَأَحْيَاهُم بهِ، وَجَعَلَهُم يمشونَ بهِ بينَ الناسِ، وَأَصْلَهُ في قلوبِهِم، ثُمَّ تَقْوَى مَادَّتُهُ، فَتَتَزَايَدُ حتَّى يَظْهَرَ على وجوهِهِم وَجَوَارِحِهِم وَأَبْدَانِهِم، بلْ وَثِيَابِهِم وَدُورِهِم، يُبْصِرُهُ مَنْ هوَ مِنْ جِنْسِهِم، وسائرُ الخلقِ لهُ مُنْكِرُونَ، فإذا كانَ يومُ القيامةِ بَرَزَ ذلكَ النورُ، وَصَارَ بِأَيْمَانِهِم يَسْعَى بينَ أَيْدِيهِم في ظُلْمَةِ الجسرِ حتَّى يَقْطَعُوهُ، وهُمْ فيهِ على حَسَبِ قُوَّتِهِ وضَعْفِهِ في قلوبِهِم في الدُّنيا، فمِنْهُم مَنْ نُورُهُ كالشمسِ، وآخرُ كالقمرِ، وآخرُ كالنجمِ، وآخرُ كالسراجِ، وآخرُ يُعْطَى نوراً على إبهامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ أُخْرَى، إذا كانتْ هذهِ حالَ نورِهِ في الدنيا، فَأُعْطِيَ على الجسرِ بمقدارِ ذلكَ، بلْ هوَ نفسُ نورِهِ ظَهَرَ لهُ عِياناً، ولَمَّا لمْ يَكُنْ للمُنَافِقِ نورٌ ثابتٌ في الدنيا، بلْ كانَ نورُهُ ظاهراً لا باطناً، أُعْطِيَ نُوراً ظاهراً مَآلُهُ إلى الظلمةِ والذهابِ.
وَضَرَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لهذا النورِ، وَمَحَلِّهِ، وحاملِهِ، ومادَّتِهِ مثلاً بالمِشْكَاةِ، وهيَ الكُوَّةُ في الحائطِ، فَهِيَ مِثْلُ الصدرِ، وفي تلكَ المشكاةِ زجاجةٌ منْ أصفَى الزجاجِ، وحتَّى شُبِّهَتْ بالكوكبِ الدُّرِّيِّ في بَيَاضِهِ وصفائِهِ، وَهِيَ مثلُ القلبِ، وَشُبِّهَتْ بالزجاجةِ؛ لأنَّهَا جَمَعَتْ أوصافاً هيَ في قلبِ المؤمنِ، وهيَ: الصفاءُ، والرِّقَّةُ، والصلابةُ، فَيُرَى الحقُّ والهُدَى بِصَفَائِهِ، وَتَحْصُلُ منهُ الرأفةُ والرحمةُ والشفقةُ بِرِقَّتِهِ، وَيُجَاهِدُ أعداءَ اللهِ تَعَالَى، وَيُغْلِظُ عليهم، وَيَشْتَدُّ في الحقِّ، وَيصْلُبُ فيهِ بصلابتِهِ، ولا تُبْطِلُ صفةٌ منهُ صفةً أُخْرَى، ولا تُعَارِضُهَا، بلْ تُسَاعِدُهَا وَتُعَاضِدُهَا {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمرانَ: 159]، وقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 73]. وفي أثرٍ: ((القُلُوبُ آنيَةُ اللهِ تَعَالَى في أرضِهِ، فَأَحَبُّهَا إليهِ أَرَقُّهَا وَأَصْلَبُهَا وَأَصْفَاهَا)) ([13]).
وبإزاءِ هذا القلبِ قَلْبَانِ مَذْمُومَانِ في طَرَفَيْ نَقِيضٍ:
- أحدُهُمَا: قَلْبٌ حَجَرِيٌّ قَاسٍ لا رحمةَ فيهِ، ولا إحسانَ ولا بِرَّ، ولا لهُ صفاءٌ يَرَى بهِ الحقَّ، بلْ هوَ جَبَّارٌ جاهلٌ، لا عالِمٌ بالحقِّ، ولا راحمٌ بالخلقِ.
- وبإزائِهِ قَلْبٌ ضعيفٌ مَائِيٌّ، لا قُوَّةَ فيهِ ولا استمساكَ، بلْ يَقْبَلُ كلَّ صورةٍ، وليسَ لهُ قُوَّةُ حفظِ تلكَ الصُّوَرِ، ولا قوَّةُ التأثيرِ في غيرِهِ، وكلُّ ما خَالَطَهُ أَثَّرَ فيهِ منْ قَوِيٍّ وضعيفٍ، وَطَيِّبٍ وخبيثٍ.
وفي الزجاجةِ مِصْبَاحٌ، وهوَ النورُ الذي في الفَتِيلَةِ، وهيَ حَامِلَتُهُ، ولذلكَ النورِ مادَّةٌ، وهوَ زَيْتٌ قدْ عُصِرَ منْ زَيْتُونَةٍ في أعدلِ الأماكنِ تُصِيبُهَا الشمسُ أوَّلَ النهارِ وآخرَهُ، فَزَيْتُهَا منْ أَصْفَى الزيتِ وأبعدِهِ من الكدرِ، حتَّى إنَّهُ لَيَكَادُ منْ صفائِهِ يُضِيءُ بلا نارٍ، فهذهِ مادَّةُ نورِ المصباحِ، وكذلكَ مادَّةُ نُورِ المصباحِ الذي في قَلْبِ المؤمنِ هوَ مِنْ شجرةِ الوَحْيِ التي هيَ أعظمُ الأشياءِ بَرَكَةً، وَأَبْعَدُهَا من الانحرافِ، بلْ هيَ أَوْسَطُ الأمورِ وَأَعْدَلُهَا وأفضلُهَا، لمْ تَنْحَرِف انْحِرَافَ النصرانيَّةِ، ولا انحرافَ اليهوديَّةِ، بلْ هيَ وسطٌ بينَ الطرفَيْنِ المذمومَيْنِ في كلِّ شيءٍ، فهذهِ مادَّةُ مصباحِ الإيمانِ في قلبِ المؤمنِ.
وَلَمَّا كانَ ذلكَ الزيتُ قد اشْتَدَّ صفاؤُهُ حتَّى كادَ أنْ يُضِيءَ بنفسِهِ، ثُمَّ خَالَطَ النارَ فَاشْتَدَّتْ بها إضاءَتُهُ، وَقَوِيَتْ مادَّةُ ضوءِ النارِ بهِ، كانَ ذلكَ نُوراً على نورٍ.
وهكذا المُؤْمِنُ قَلْبُهُ مُضِيءٌ يَكَادُ يَعْرِفُ الحقَّ بفِطْرَتِهِ وعقلِهِ، ولكنْ لا مادَّةَ لهُ منْ نفْسِهِ، فجاءَتْ مادَّةُ الوحيِ، فَبَاشَرَتْ قَلْبَهُ، وَخَالَطَتْ بَشَاشَتَهُ، فازْدَادَ نوراً بالوحيِ على نُورِهِ الذي فَطَرَهُ اللهُ تَعَالَى عليهِ، فَاجْتَمَعَ لهُ نورُ الوحيِ إلى نورِ الفطرةِ، فَصَارَ نوراً على نورٍ، فَيَكَادُ يَنْطِقُ بالحقِّ وإنْ لمْ يَسْمَعْ فيهِ أثراً، ثُمَّ يَسْمَعُ الأثرَ مطابقاً لِمَا شَهِدَتْ بهِ فطرتُهُ، فيكونُ نوراً على نورٍ. فهذا شأنُ المؤمنِ، يُدْرِكُ الحقَّ بفطرتِهِ مُجْمَلاً، ثُمَّ يَسْمَعُ الأثرَ جاءَ بهِ مُفَصَّلاً، فَيَنْشَأُ إيمانُهُ عنْ شهادةِ الوحيِ والفطرةِ.
فَلْيَتَأَمَّل اللبيبُ هذهِ الآيَةَ العظيمةَ، وَمُطَابَقَتَهَا لهذهِ المعاني الشريفةِ، فَذَكَرَ سبحانَهُ وتَعَالَى نورَهُ في السَّمَاواتِ والأرضِ، ونورَهُ في قلوبِ عبادِهِ المؤمنينَ؛ النورَ المعقولَ المشهودَ بالبصائرِ، والنورَ الذي اسْتَنَارَتْ بهِ البصائرُ والقلوبُ، والنورَ المحسوسَ المشهودَ بالأبصارِ الذي اسْتَنَارَتْ بهِ أقطارُ العالمِ العلويِّ والسفليِّ، فَهُمَا نُورَانِ عَظِيمَانِ، أَحَدُهُمَا أعظمُ من الآخرِ، وكما أنَّهُ إذا فُقِدَ أَحَدُهُمَا منْ مكانٍ أوْ موضعٍ لمْ يَعِشْ فيهِ آدَمِيٌّ ولا غَيْرُهُ؛ لأنَّ الحيوانَ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ حيثُ النورُ، ومواضِعُ الظلمةِ التي لا يُشْرِقُ عليها نورٌ لا يَعِيشُ فيها حيوانٌ ولا يَتَكَوَّنُ الْبَتَّةَ، فكذلكَ أُمَّةٌ فُقِدَ فيها نورُ الوحيِ والإيمانِ، وقَلْبٌ فُقِدَ منهُ هذا النورُ مَيِّتٌ ولا بُدَّ لا حياةَ لهُ الْبَتَّةَ، كما لا حياةَ للحيوانِ في مكانٍ لا نورَ فيهِ.
واللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى يَقْرِنُ بينَ الحياةِ والنورِ، كما في قولِهِ عزَّ وجلَّ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. وكذلكَ قولُهُ عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. وقدْ قِيلَ: إنَّ الضميرَ في " جَعَلْنَاهُ " عائِدٌ إلى الأمرِ، وقيلَ: إلى الكتابِ، وقيلَ: إلى الإيمانِ. والصوابُ أنَّهُ عائِدٌ إلى الروحِ؛ أيْ: جَعَلْنَا ذلكَ الروحَ الذي أَوْحَيْنَاهُ إليكَ نُوراً، فَسَمَّاهُ رُوحاً لِمَا يَحْصُلُ بهِ من الحياةِ، وَجَعَلَهُ نُوراً لِمَا يَحْصُلُ بهِ من الإشراقِ والإضَاءَةِ، وَهُمَا مُتَلازِمَانِ، فَحَيْثُ وُجِدَتْ هذهِ الحياةُ بهذا الروحِ وُجِدَت الإضاءةُ والاستنارةُ، وحيثُ وُجِدَت الاستنارةُ والإضاءةُ وُجِدَت الحياةُ، فَمَنْ لمْ يَقْبَلْ قَلْبُهُ هذا الروحَ، فهوَ مَيِّتٌ مُظْلِمٌ، كما أنَّ مَنْ فَارَقَ بَدَنَهُ روحُ الحياةِ فهوَ هَالِكٌ مُضْمَحِلٌّ)([14]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 505.
([2]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 45.
([3]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 76.
([4]) مُخْتَصَرُ الصواعقِ المرسَلَةِ (348) .
([5]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (11851) .
([6]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 502.
(7) وقال رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في صفحةِ (349): (و... نُورُهُ المُضافُ إليه يَخْتَصُّ به لا يَقُومُ بغَيرِه، فإن نُورَ المِصباحِ قامَ بالفَتِيلَةِ مُنبَسِطًا على السُّقُوفِ والجُدرانِ، وليس ذلك هو نورَ الربِّ تعالَى الذي هو نُورُ ذَاتِهِ ووَجْهِهِ الأعلَى، بل ذلك هو المضافُ إليه حقيقةً، كما أن نُورَ الشمسِ والقمرِ والمصباحِ مضافٌ إليها حقيقةً. قال تعالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} وقالَ تعالَى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} وقالَ تعالَى: {الْحَمْدُ للهِ الذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ}. فهذا نُورٌ مَخلوقٌ قَائِمٌ بجِرْمٍ مخلوقٍ لا يُسمَّى به الربُّ تَعالَى ولا يُوصَفُ بهِ، ولا يُضافُ إليه إلا على جِهةِ أنه مخلوقٌ له، مَجعولٌ، لا على أنه وَصْفٌ له قائمٌ به. فالتسويةُ بين هذا وبينَ نُورِ وَجهِه الذي أَشْرَقَتْ له الظُّلُماتُ، وصَلَحَ عليه أَمْرُ الدُّنيَا والآخرةِ، واستعاذَ به العائذونَ مِنْ أَبْطَلِ الباطِلِ).
([8]) مُخْتَصَرُ الصواعقِ المرسَلَةِ (346-347) .
([9]) مُخْتَصَرُ الصواعقِ المرسَلَةِ (355-356) .
([10]) شِفَاءُ العَلِيلِ (1/272) .
([11]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 505.
([12]) سَبَقَ تَخْرِيجُه صفحة 76 .
(13) رواهُ الحكيمُ التِّرْمِذِيُّ في نوادرِ الأصولِ (4/100) عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رضيَ اللهُ عنه، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ : ((إنَّ للهِ تعالَى فِي الأرضِ أَوَانِيَ، ألا وهِيَ القُلوبُ، فَأَحَبُّهَا إلى اللهِ أَرَقُّهَا وأَصفاهَا وأَصْلَبُها)).
([14]) الوابلُ الصَّيِّبُ (101-108) .
مُلحَقٌ: وقال رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في اجتماعِ الجُيوشِ الإسلاميةِ (12- 28): ((واللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى سَمَّى نَفْسَهُ نُورًا، وجعلَ كِتابَهُ نُورًا ورَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ نُورًا، ودِينَهُ نُورًا، وَاحْتَجَب عن خَلقِهِ بالنُّورِ، وجَعلَ دارَ أوليائِه نُورًا يَتلألأُ. قالَ اللهُ تعالَى: {اللهُ نُورُ السَّماواتِ والأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النورُ: 35].
وقد فسَّرَ قَولَهُ: {اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ} بكَونِه مُنَوِّرَ السماواتِ والأرضِ، وهَادِيَ أَهْلِ السماواتِ والأرضِ.
فبنُورِه اهتدَى أهلُ السماواتِ والأرضِ، وهذا إنما هو فِعْلُه، وإلا فالنورُ الذي هو من أوصافِه قائمٌ به، ومنه اشتَقَّ له اسمَ النورِ الذي هو أَحَدُ الأسماءِ الحُسْنَى.
والنورُ يُضافُ إليه سُبحانَهُ على أحدِ وَجهينِ: إضافةُ صفةٍ إلى مَوصوفِها، وإضافةُ مفعولٍ إلى فاعلِه.
فالأولُ: كقولِه عزَّ وجلَّ: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزُّمَرُ: 119]، فهذا إِشراقُها يومَ القيامةِ بنُورِه تَعالَى إذا جاءَ لِفَصْلِ القضاءِ، ومنه قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ في الدعاءِ المشهورِ: ((أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الكَرِيمِ أَنْ تُضِلَّنِي لاَ إِلَهَ إلا أَنْتَ)). وفي الأثَرِ الآخَرِ: ((أَعُوذُ بِوَجْهِكَ -أو بنُورِ وَجْهِكَ- الذي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ)). فأخبرَ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: أن الظُّلُمَاتِ أَشْرَقَتْ لِنُورِ وَجْهِ اللهِ. كما أخبرَ تَعالَى أن الأرضَ تُشرِقُ يَومَ القيامةِ بنُورِهِ.
وفي مُعْجَمِ الطَّبَرانِيِّ و (السُّنَّةِ) له، وكتابِ عُثمانَ بنِ سعيدٍ الدَّارِمِيِّ وغيرِهما، عن ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه قال: ليسَ عند رَبِّكُمْ لَيْلٌ ولا نهارٌ. نُورُ السماواتِ والأرضِ من نُورِ وَجهِه. وهذا الذي قالَهُ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه أَقرَبُ إلى تفسيرِ الآيةِ من قولِ مَن فَسَّرَها بأنه هادِي السماواتِ والأرضِ، وأما مَن فَسَّرَها بأنه مُنَوِّرُ السماواتِ والأرضِ، فلا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وبينَ قولِ ابنِ مسعودٍ، والحقُّ أنه نُورُ السماواتِ والأرضِ بهذه الاعتباراتِ كُلِّها.
وفي (صحيحِ مُسلمٍ) وغيرِه من حديثِ أبي مُوسَى الأشعَرِيِّ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قامَ فينا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بخَمْسِ كَلِمَاتٍ فقالَ: ((إنَّ اللهَ لا يَنَامُ ولا يَنْبَغِي له أَنْ يَنامَ يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إليه عَمَلُ الليلِ قبلَ عَمَلِ النهارِ، وعَمَلُ النهارِ قَبْلَ عَمَلِ الليلِ، حِجابُهُ النورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِه ما انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِه)).
وفي (صحيحِ مُسلمٍ)، عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه قالَ: سألتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: هل رأيتَ رَبَّكَ؟ قال: ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ)). فسَمِعْتُ شيخَ الإسلامِ ابنَ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ الله ورَضِيَ عنه يقولُ: مَعْنَاهُ كانَ ثَمَّ نُورٌ وحالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ نُورٌ، فأَنَّى أراهُ. قال: ويَدُلُّ عليه أنَّ في بعضِ ألفاظِ الصحيحةِ: (هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فقالَ: ((رَأَيْتُ نُورًا)). وقد أَعْضَلَ أمرُ هذا الحديثِ على كثيرٍ منَ الناسِ حتَّى صَحَّفَهُ بعضُهم، فقالَ: نُورَانِّيٌّ أَرَاهُ على أنها ياءُ النسب والكلِمَةُ كَلِمَةٌ واحدةُ، وهذا خطأٌ لَفظًا ومعنًى، وإنما أوجَبَ لهم هذا الإشكالَ والخطأَ أنهم لمَّا اعتَقَدُوا أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ، وكانَ قَولُه: ((أَنَّى أَرَاهُ)) كالإنكارِ للرؤيةِ حَارُوا في الحديثِ، ورَدَّهُ بَعضُهم باضطرابِ لَفْظِه، وكلُّ هذا عُدولٌ عن مُوجِبِ الدليلِ. وقد حَكَى عُثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ في (كتابِ الرُّؤْيَةِ) له: إجماعَ الصحابةِ على أنه لم يَرَ رَبَّهُ ليلةَ المعراجِ، وبعضُهُمُ استَثْنَى ابنَ عباسٍ فيمَنْ قالَ ذلك. وشيخُنا يقولُ: ليس ذلك بخلافٍ في الحقيقةِ، فإنَّ ابنَ عباسٍ لم يَقُلْ بعَيْنَيْ رَأْسِه، وعليه اعتمَدَ أحمدُ في إحدى الروايتَيْنِ حيثُ قالَ: إنه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ رآهُ عَزَّ وجَلَّ، ولم يَقُلْ بعَيْنَيْ رَأسِه. ولفظُ أحمدَ لفظُ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما، ويدُلُّ على صِحَّةِ ما قالَ شَيْخُنا في معنَى حديثِ أبي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنه قولُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ في الحديثِ الآخَرِ: ((حِجَابُهُ النُّورُ)) فهذا النورُ هو -واللهُ أَعْلَمُ- النورُ المذكورُ في حديثِ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((رَأَيْتُ نُورًا)).
فصلٌ:
وقولُه تعالَى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النورُ: 35]. هذا مَثَلٌ لنُورِه في قلبِ عبدِه المؤمِنِ، كما قالَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وغيرُه، وقد اختُلِفَ في مُفسِّرِ الضميرِ في (نُورِه)، فقيلَ: هو النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، أيْ مَثَلُ نُورِ مُحمدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وقيلَ: مُفسِّرُهُ المؤمِنُ. أي مَثَلُ نُورِ المؤمنِ. والصحيحُ أنه يعودُ على اللهِ سبحانَهُ وتعالَى، والمعنَى: مَثَلُ نورِ اللهِ سبحانَه وتعالَى في قلبِ عبدِه. وأعظمُ عبادِه نصيبًا من هذا النورِ رسولُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، فهذا مع ما تَضَمَّنَهُ عَوْدُ الضميرِ المذكورِ، وهو وجهُ الكلامِ يَتضمَّنُ التقاديرَ الثلاثةَ، وهو أتَمُّ لفظًا ومعنًى.
وهذا النورُ يُضافُ إلى اللهِ تعالَى إذ هو مُعطِيهِ لعَبدِه ووَاهِبُهُ إياهُ ويُضافُ إلى العبدِ إذ هو مَحَلُّه وقَابِلُه، فيُضافُ إلى الفاعلِ والقابلِ، ولهذا النورِ فاعلٌ وقابلٌ ومَحَلٌّ وحالٌ ومادةٌ. وقد تَضمنَّتِ الآيةُ ذِكرَ هذه الأمورِ كُلِّها على وجهِ التفصيلِ، فالفاعلُ هو اللهُ تعالَى مُفِيضُ الأنوارِ الهادِي لنورِه مَن يشاءُ. والقابلُ: العبدُ المؤمنُ. والمحَلُّ: قَلْبُه، والحالُ: هِمَّتُه وعزيمتُه وإرادتُه، والمادةُ: قولُه وعمَلُه، وهذا التشبيهُ العجيبُ الذي تَضمَّنَتْهُ الآيةُ فيه من الأسرارِ والمعانِي، لإظهارِ تَمامِ نِعمَتِه على عبدِه المؤمنِ بما أنالَهُ من نُورِه ما تَقَرُّ به عُيونُ أهلِه وتَبْتَهِجُ قُلوبُهم، وفي هذا التشبيهِ لأهلِ المعانِي طَريقانِ:
إِحداهُما: طريقةُ التشبيهِ المُرَكَّبِ، وهي أَقرَبُ مَأخَذًا وأَسْلَمُ مِن التكلُّفِ، وهي أن تُشَبَّهَ الجُملةُ برُمَّتِها بنُورِ المُؤمنِ مِن غيرِ تَعرُّضٍ لفَصْلِ كُلِّ جُزءٍ من أجزاءِ المُشبَّهِ ومُقابلَتِهِ بجُزءٍ من المُشَبَّهِ به، وعلى هذا عامةُ أمثالِ القرآنِ، فتأمَّلْ صِفةَ المِشكاةِ وهي كُوَّةٌ لا تَنْفُذُ لِتَكُونَ أَجْمَعَ للضَّوْءِ قد وُضِعَ فيها المِصباحُ، وذلك المصباحُ داخلُ زُجاجةٍ تُشبِهُ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ في صَفائِها وحُسنِها، ومادتُه من أَصفَى الأذْهانِ وأَتَمِّها وَقودًا من زيتِ شجرةٍِ في وَسَطِ القَراحِ، لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ بحيثُ تُصيبُها الشمسُ في أحدِ طَرَفَيِ النهارِ، بل هي في وَسَطِ القَراحِ مَحمِيَّةٌ بأَطرافِه تُصيبُها الشمسُ أعدلَ إصابةٍ، والآفاتُ إلى الأطرافِ دُونَها، فمِن شدةِ إضاءةِ زيتِها وصفائِه وحُسنِه يَكادُ يُضيءُ مِن غيرِ أن تَمَسَّهُ نارٌ، فهذا المجموعُ المُركَّبُ هو مَثَلُ نُورِ اللهِ تعالَى وَضَعَهُ في قلبِ المؤمنِ وَخَصَّهُ به) ثم ذَكَرَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى الطريقةَ الثانيةَ وهي طريقةُ التشبيهِ المُفَصَّلِ، ثم بَيَّنَ تَضمُّنَ هذه الآياتِ لجميعِ طوائفِ بنِي آدَمَ بكَلامٍ مَتينٍ مِن عالِمٍ جليلٍ، فراجِعْهُ إن أَرَدْتَ الاستزادةَ.