الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين نتحدث عن مخلوق صغير ، وهو النمل ، ومخلوق آخر وهو البعوضة ، لقد جعل الله عز وجل لحكمة أرادها في كل صفة مادية في الإنسان حيوان يفوقه بها ، إلا أن الإنسان كرّمه الله بالعقل والمعرفة والإيمان ، وبهاتين الصفتين يتفوق على بقية مخلوقاته .
يا من يرى مدّ البعوض جناحها في ظلمة الليـل البهيم الأليل
ويرى مناط عقولها في نـحرها والمـخ في تلك العظام النحّل
امنُنْ عليّ بتوبة تمحو بها مــا كان مني في الزمـان الأول
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم :
ان الله لايستحى ان يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقهاأعتقد أنه ما من مخلوق أهون على الإنسان من بعوضة ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديثه ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((
لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ ماء )) . (سنن الترمذي)
مخلوق هيّن على الإنسان ، قد يقتل الإنسان بعوضة ، ولا يشعر أنه قتل شيئاً ، هوانها على الإنسان لا حدود له ، ومع ذلك ففي هذه البعوضة من الآيات الدالة على عظمته الشيء الكثير ، كيف لا وقد ذكرت في القرآن الكريم !
هناك ملاحظة دقيقة ، عدد الآيات الكونية الدالة على عظمة الله لو أنك قلت : مليار مليار مَليار إلى نهاية الحياة لا تنتهي ، لكن الله اختار لنا من هذا العدد اللامتناهي عددًا محدودًا في القرآن ، ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون ، فأنت حينما تقرأ آية فيها أمر ، فهذا الأمر يقتضي أن تأتمر ، وحينما تقرأ آية فيها نهي فهذا النهي يقتضي أن تنتهي ، الآن حينما تقرأ آية كونية يقتضي هذا أن تفكر في هذه الآية ، وكأن هذه الآيات الكونية المتعلقة بالسماوات والأرض ، وبخلق الإنسان ، وخلق الحيوان والنبات هي رؤوس موضوعات للتفكر ، فيكفيني أن يذكر الله في قرآنه البعوضة ، إذاً هي آية كبيرة على صغر شأنها وحقارة مكانتها عند الإنسان .
لكن يقول الله عز وجل بعد قليل :
وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلالمَ هذا المثل ، وما قيمته ؟ البعوضة في رأسها مئة عين بالتمام والكمال ، طبعاً هذا كله عُرِضَ على مجاهر إلكترونية ، وأنا أجريت ندوة في سوريا ، وعرضت هذه الصور ، صور مكبرة ، في رأسها مئة عين ، وثمان وأربعون سناً ، ولها ثلاثة قلوب في صدرها ، قلب مركزي ، وقلب في كل جناح ، وفي كل قلب أذينان وبطينان ودسامان ، أما البعوضة فتملك جهازاً لا تملكه الطائرات ، إنها لا ترى الأشياء لا بشكلها ، ولا بلونها ، ولا بحجمها ، ولكنها تراها بحرارتها فقط ، عندها جهاز استقبال حراري لا تملكه أدق الطائرات ، لذلك هذا الجهاز حساسيته واحد على ألف من الدرجة المئوية ، إذا ارتفعت الحرارة واحدًا على ألف يبدو أمام عينها ظاهراً ! وفي غرفة مظلمة في الليل ينام طفلان على سرير ، لا ترى في هذه الغرفة إلا الطفلين ، تتجه إلى أحدهما ، هذا الجهاز نسميه تجاوزاً جهاز رادار ، أما الاسم الأدق فهو جهاز استقبال حراري ، يستقبل الصور بحرارتها ، تتجه إلى جبين هذا الطفل ، وما كل دم يناسبها ، قد ينام طفلان على سرير واحد ، يستيقظ الأول ، وقد ملئ بلسع البعوض ، والثاني لم يُلسع لسعة واحدة ، إنها تحلل الدم ، تختار من بعض الدماء ما يناسبها ، ففضلاً عن جهاز الاستقبال الحراري وجهاز الرادار هناك جهاز تحليل دم ، إنها إن وقعت على طفل ، وخافت أن يقتلها عن انتبه ، لا بد من تخديره ، معها جهاز تخدير ، والإنسان حينما يتوهم أنه قتلها هي في الجو ، أطلق يده بعد أن انتهى تأثير المخدر ، فمعها جهاز رادار ، وجهاز استقبال حراري ، وجهاز تحليل دم ، وجهاز تخدير ، لأن خرطومها دقيق جداً ، والدم اللزج قد لا يمر في خرطومها ، فلا بد من تمييع الدم ، فمعها جهاز رادار ، وتخدير ، وتمييع ، أما خرطوم هذه البعوضة فشيء لا يكاد يصدق ، خرطومها فيه ست سكاكين ، أربع سكاكين تحدث جرحاً مربعاً ، ولا بد لهذه السكاكين من أن تصل إلى وعاء دموي كي تمتص الدم ، وسكينان آخران يلتئمان على شكل أنبوب ضمن الأربع سكاكين ، فست سكاكين ، أربعة لإحداث جرح ، وسكينان لامتصاص الدم ، هذا بخرطومها الدقيق ، طبعاً هذا الكلام متى عرف ؟ بعد أن اخترع المجهر الإلكتروني ، وهو يكبر أربعين ألف مرة ، أنا حينما أشتري مكبر من السوق هذا يكبر ثمانية مرات ، أنواع العالية جداً عشر مرات ، بينما الإلكتروني قد يصل التكبير إلى أربعين ألف مرة .
وحتى نرى هذه الدقة بالوصف مئة عين ، فالبعوضة نراها بشكلها ، وهي صغيرة جداً ، فكيف نرى هذه الأعين أو القلوب ، وما شابه ذلك ؟
عيون مئة ، ثمان وأربعون سنًّا أسنان قلوب ثلاثة أسنان جهاز استقبال حراري أسنان جهاز تحليل ، جهاز تخدير ، جهاز تمييع ، الآن إذا وقفتْ على سطح أملس كيف تقف ؟ عندها محاجم على أساس ضغط الهواء ، أنت حينما تريد أن تعلق مشجبًا في حمام معتنى به جداً ، وتخاف أن تثقب هذا البلاط الراقي تأتي بمشجب على أساس الضغط ، تفريغ الهواء يجعل المشجب يلصق بالبلاط ، فعندها محاجم تمكنها من الوقوف على سطح أملس بمحاجمها ، فإذا كان السطح خشناً تقف بمخالبها ، والبعوضة يرف جناحاها بعدد كبير جداً ، يبلغ درجة الطنين ، بعضهم قال : آلاف المرات في الثانية الواحدة ! ثم إن هذه البعوضة تشم رائحة عرق الإنسان من ستين كيلو مترًا تقريباً ، فهذه هي بعوضة ،
وقد تظهر أبحاث وأبحاث حول البعوضة ، قد لا نصدق بعضها ، لكنها حقيقة علمية ، الله عز وجل خلق هذا الكون من أجل أن نعرفه بدليل
ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم البعوضة ، وضرب بها مثلاً ، ولكن الآن سورة بأكملها سميت باسم النمل ، فطبعاً هناك شأن لهذه النملة ، فما هو شأنها ، وكيف تعمل
الحقيقة أن النمل من أرقى الحشرات الاجتماعية ، ففي مجتمع النمل انضباط لا يصدق ، اختصاص لا يصدق ، قد يعجب الإنسان ، هناك تساؤل : مجتمع البشر فيه تقصير وتسيّب ، وانحرافات وجرائم ، وقتل ، ومجتمع النمل كماله يكاد لا يصدق ، ما تفسير ذلك ؟
الجواب سهل جداً : نظام البشر بأمر تكليفي ، ونظام النمل بأمر تكويني ! معنى ذلك أن بالأمر التكليفي لك أن تخالف ، كما لو وُضعت لافتة مكتوب عليها " ممنوع المرور " على أول طريق ، وهذا ليس معناه أنك لا تستطيع أن تخالف ، لكن إذا خالفت تعاقب فقط ، أما لو وضعنا أربعة مكعبات إسمنتية في أول الطريق لا تستطيع أن تمشي في هذا الطريق ، هذا أمر تكويني ، فنظام النمل المعقد انضباطه الشديد بأمر تكويني ، بينما نظام الإنسان بأمر تكليفي ، لذلك ترى في المجتمع الإنساني تفلتًا وتسيّبًا ، لكن هناك تكليف ، وهناك جزاء وعقاب ، وجنة ونار ، أما مجتمع النمل فمجتمع راقٍ جداً ، ولكن بأمر تكويني ، ليس هناك تكليف ، وليس هناك ثواب ولا عقاب .
، النملة حشرة اجتماعية راقية جداً ، موجودة في كل مكان ، وفي كل وقت ، بل إن أنواع النمل تزيد على تسعة آلاف نوع ! بعضه يحيا حياة مستقرة في مساكن محكمة ، وبعضها يحيا حياة الترحال كالبدو تماماً ، بعض أنواع النمل يكسب قوته بجهده وسعيه ، وبعضه يكسبه بالغدر والسيطرة ، والنمل حشرة ذات طبع اجتماعي ، فإنها إذا عزلت عن أخواتها ماتت ، ولو توافرت لها كل مقومات الحياة ، من غذاء جيد ، ومكان جيد ، وظروف جيدة ، فهي كالإنسان إذا عزلته في مكان بعيد عن الضوء والصوت ، والساعة والزمن ، والليل والنهار ، عشرون يوماً اختل توازنه
سميت سورة في القرآن الكريم باسم النمل ، وذلك لعلو شأنها أو لضرب مثل للإنسان ، ولكن هناك سؤال ، وإن كان فقهيًّا أكثر من أن يختص بالإعجاز العلمي ، البعض يستصغر هذه الحشرة ، ويقتلها ، فما شأن هذا الإنسان ؟ اللهُ نهي عن قتلها ، لأنها حينما قالت نملة في قوله تعالى: قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون
سورة النمل)استنبط العلماء أن الإنسان المؤمن لا يقتل نملة ، وهو يشعر ، فإذا قتلها يقتلها ، وهو لا يشعر ، فلذلك منهي عن قتل النمل ، هذه النملة تعلم الإنسان درساً بليغاً في التعاون ، أودع الله في جهازها الهضمي جهاز ضخ وجهاز مص ، فإن كانت شبعى وأختها جائعة تستخدم جهاز الضخ ، وتعطيها من عصارتها الهضمية ، فهي تعطي وتأخذ ، الإنسان عنده جهاز مص فقط ، بل أنا أرى البشر على نوعين ، نوع قدوته الأنبياء ، جاءوا الحياة فأعطوا ، ولم يأخذوا ، ونوع قدوته الأقوياء ، أخذوا ولم يعطوا ، وبعض الناس يأخذ ويعطي ، ولكن قمم الأنبياء أعطت ، ولم تأخذ ، والطغاة أخذوا ولم يعطوا ، بينما معظم البشر يأخذون ويعطون ، فالذي قدوته نبي كريم يغلب عليه العطاء ، والذي كان قدوته قوياً جباراً في الأرض يغلب عليه الأخذ ، لكن المؤمن يأخذ ويعطي .
إذا التقت نملة جائعة بشبعى تعطي النملة الشبعى خلاصات غذائية من جسمها ، للنمل ملكة كبيرة الحجم ، مهمتها وضع البيض ، وإعطاء التوجيهات ، ولها مكان أمين في مساكن النمل ، وهي على اتصال دائم بكل أفراد المملكة ، والإناث العاملات لها مهمات متنوعة ، من هذه المهمات تربية الصغار ، وهذا يشبه قطاع التعليم ، وفي النمل عساكر لها حجم أكبر ، ورأس صلب ، كأن عليه خوذة ، وهذا يشبه قطاع الجيش في حراسة الملكة ، والأمن ، ورد العدوان ، ومن مهمات العاملات تنظيف المساكن والممرات ، وهذا يشبه قطاع البلديات ، ومن مهمات العاملات سحب جثث الموتى من المساكن ، ودفنها في الأرض ، وهذا يشبه مكاتب دفن الموتى ، ومن مهمات العاملات جلب الغذاء من خارج المملكة ، وهذا يشبه قطاع المستوردين ، ومن مهمات العاملات زرع الفطريات ، وهذا يشبه قطاع الزراعة ، ومن مهمات العاملات تربية حشرات تعيش النمل على رحيقها ، وهذا يشبه قطاع تربية المواشي .
يبني النمل المدن ، ويشق الطرقات ، ويحفر الأنفاق ، ويخزن الطعام في مخازن وصوامع ، وبعض أنواع النمل يقيم الحدائق ، ويزرع النباتات ، وبعض أنواع النمل يقيم حروباً على قبائل أخرى ، فيأخذ الأسرى من ضعاف النمل المخزون ، الآن لندقق في هذه الآية :
وما من دابة في الارض ولا طير بجناحيه الا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيئ ثم الى ربهم يحشرونلو قرأنا كل التفاسير لا تجد تفسيراً لهذه الآية أقوى من هذا البحث العلمي :
الا أمم أمثالكم أرأيت إلى مهمات النمل ، نمل الذي يعيش على العدوان ، ونمل على الكسب الشريف ، ونمل يقوم بتربية المواشي بزراعة بعض المزروعات ، ونمل يستورد ، ونمل يربي ، ونمل يخطط ، ونمل يحرث .
هناك مهمات كثيرة يتطلع بها النمل ، وكأنه أشبه بالإنسان ومجتمعه ، لذلك لا بد له من إدراك معين كي يبني هذه المدن والمساكن ، وله عدة قطاعات كما ذكرتم .
لقد أثبت الله جل جلاله من خلال هذه الآية الكلام للنمل نوعاً من المعرفة ، للنملة مخ صغير ، وخلايا عصبية ، وأعصاب لتقدير المعلومات ، وخرائط كي تهتدي بها إلى مواقع الغذاء ومساكنها ، وإن النملة تملك نوعاً من التصرف العقلاني ، وهي من أذكى الحشرات ، وهي ترى بموجات ضوئية لا يراها الإنسان ، ولغة النمل كيماوية ، لها وظيفتان ، التواصل والإنذار ، فلو سحقت نملة فإن رائحة تصدر عنها تستغيث بها النملات ، وتحذرها من الاقتراب من المجزرة ، ولا تستطيع نملة دخول مسكنها إلا إذا بيّنت كلمة السر ، وهي تبدّل من حين إلى آخر
وللنملة جهاز هضم مدهش ، فيه فم ومريء ، ومعدة وأمعاء ، وجهاز مص وجهاز ضخ .
الإمام علي كرم الله وجهه يقول : " انظروا إلى النملة لصغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبت على أرضها ، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة إلى حجرها ، وتعدها في مستقرها ، تجمع من حرها لبردها ، وفي وردها لصدرها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوسقها ، لا يغفلها المنان ، ولا يحرمها الديان ، ولو فكرت في مجاري أكلها ، في علوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها ، لقضيت من خلقها عجباً ، وللقيت من وصفها تعباً ، فتعالى الله الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يُعِنه على خلقها قادر ، لا إله إلا هو ، ولا مع معبود سواه " ، هذا كلام سيدنا علي .
يوجد قول آخر ، يقول الإمام الجليل : الشرك أخفى من دبيب النملة السمراء على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، على كل هذه آيات دالة على عظمة الله عز وجل ، أثبت الله للنملة الكلام والمعرفة .
في بحث آخر قرأته عن النمل أنّ النملة إذا أوشكت أن تموت ترسل لأخواتها بشارة أن تعالوا فادفنوني ، جاء عالم من علماء النمل فأخذ هذه الرائحة ، ووضعها على نملة صحيحة قوية متينة ، فجاءت النملات ، ودفنوها ، معهم نص ، هؤلاء نصيُّون ، متفقون على هذه الرائحة ، مع أنها تحيا حياة طيبة ، وترزق لكنها دُفنت ، جاء نص فنُفِّذ هذا الأمر
وكما ذكرنا سورة بأكملها تحت اسم النمل ، فتحدثنا عن مجتمع النمل ومهماته في هذه الحلقة ، إن شاء الله نعد المستمعين في حلقات قادمة بالحديث عن الإعجاز العلمي في كافة مخلوقات الله سبحانه وتعالى ،
انشالله تكونوا استفدتوا اخوتي الكرام .