بسم الله الرحمن الرحيم
: أحواله صلى الله عليه وسلم مع ربه في رمضان :
كان نبي الهدى عليه الصلاة والسلام أعرف الخلق بربه سبحانه ، وأعظمهم قياماً بحقه .. تدرج في سلم الكمال البشري فبلغ مبلغاً يعجز عن فهمه أكثر العالمين ، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ! ثم هو يقوم من الليل حتى تنتفخ وتتفطر قدماه . كان له صلى الله عليه وسلم بكاء المذنبين وأنين العاصين ودعاء المكروبين . وأحواله مع ربه في رمضان أنموذج حي يصوِّر عبادته صلى الله عليه وسلم وأشكال خضوعه لبارئه فينطق محدِّداً جوانب عدة ، أبرزها :
* صيامه صلى الله عليه وسلم لشهر رمضان : وهذا بيِّن ، والمراد من إيراده مع بداهته التذكير بشيء من صفة صيامه صلى الله عليه وسلم
1 - سحوره صلى الله عليه وسلم ، وتأخيره للسحور ، حيث كان صلى الله عليه وسلم يتناوله قبل أذان الفجر الثاني بقليل ، وكذا إفطاره ، وتعجيله للإفطار ، حيث كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي المغرب ، وكان يفطر على رطب أو تمر أو ماء . وأيضاً : تواضع إفطاره وسحوره صلى الله عليه وسلم .
ندرك هنا أن التكلف الذي نشهده اليوم في إفطار الناس وسحورهم هو أبعد شيء عن هديه صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك أنه يوسّع حظ النفس بما يلهي ويثقل عن الطاعة . فحري بالكيس الحازم أن يضبط الأمر ويحدَّ منه ، دون التذرع بالواهي من الحجج ، من تناول الطيب وإكرام الضيف .. بما يفوت خيراً كثيراً . وليتأس بنبيه صلى الله عليه وسلم فيما عرف من أحواله .
2 - دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند الإفطار ، بقوله : « ذهب الظمأ ،
وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله » [5] .
3 - سواكه صلى الله عليه وسلم في حال الصيام ، لما رُوِيَ عن عامر بن ربيعة قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم » [6] .
4 - صبه صلى الله عليه وسلم الماء على رأسه وهو صائم ، لحديث أبي بكر ابن عبد الرحمن قال : « عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر » [7] .
5 - وصاله صلى الله عليه وسلم الصيام أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة [8] . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تواصلوا . قالوا : إنك تواصل ، قال : لست كأحد منكم ، إني أُطعم وأُسقى أو إني أبيت أُطعم وأُسقى » [9] .
6 - سفره صلى الله عليه وسلم في رمضان ، وصومه صلى الله عليه وسلم في حين وفطره في آخر . عن طاوس عن ابن عباس قال : « سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهاراً ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة ، قال : وكان ابن عباس يقول : صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر [10] . قال ابن القيم : « ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحدِّ ، ولا صح عنه في ذلك شيء ... وكان الصحابة
حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم ... قال محمد بن كعب : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً ، وقد رُحِّلت له راحلته ، ولبس ثياب السفر ، فدعا بطعام فأكل ، فقلت له : سنة ؟ قال : سنة ، ثم ركب » [11] . ومهما نقل عن أئمة الفقه ، وأهل العلم في الأفضل من الفطر ، أو الصوم في السفر فيبقى أن الصوم والفطر في السفر ، كل ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما ينبغي أن يراعيه المتعجلون بالإنكار على المفطرين أو الصائمين في السفر .. فلكل مأخذه
وحجته . 7 - خروجه صلى الله عليه وسلم من الصيام برؤية محققة أو بإتمام الشهر ثلاثين ، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، وانسكوا لها ، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين ، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا » [12] .
حثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على طهارة النفس وتوقي الذنوب . ولذا قال : « رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، ورب قائم حظه من قيامه السهر » [72] .
لقد توجهت عناية كثير إلى إصلاح الظاهر والشدة فيه وإنكار المعاصي والذنوب الجليَّة ، مع ضعفٍ في تناول ذنوب القلب وأمراضه التي تورث ذنوب الجوارح ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب » [73] ،
وهذا يعني أن من الصعب النجاح في إصلاح الظاهر ما لم يُعتن بالباطن العناية التي يستحقها مع تجنب إهمال الظاهر ، حتى يتهيأ لنظرة الرضى من الرب تعالى ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
* إمامته صلى الله عليه وسلم بالناس . وقد أَمَّ أصحابه في قيام الليل في بعض ليالي رمضان ، وما منعه من الاستمرار إلا خشيته صلى الله عليه وسلم من أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها .
* خطبته صلى الله عليه وسلم فيهم وحديثه إليهم عقب بعض الصلوات [69] .
* جعله صلى الله عليه وسلم من نفسه قدوة لأصحابه ، ومن الدلائل على ذلك :
1 - خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ليصلي فيه من الليل ، كما في حديث عائشة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته ... » [70] .
2 - اعتكافه صلى الله عليه وسلم لتحري ليلة القدر ، وحثه لأصحابه على ذلك .
وأخيراً : فأحسب تلك الصفحات قد أطلعتنا على جزء يسير من سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم . فما أمسَّ حاجتنا إلى التنعم في ظل سيرته صلى الله عليه وسلم والعيش مع أخباره ، والتعرف على أحواله ، وترسم هديه وطريقته ... كيف لا ؛ وذلك الطريق هو السبيل الأوحد لنيل محبة الخالق تعالى والقرب منه ، كما قال عز وجل : قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( آل عمران : 31 ) .