موضوع: قصة سلمة بن دينار مع الخليفة سليمان بن عبد الملك السبت نوفمبر 03, 2012 3:47 am
بسم الله الرحمن الرحيم
" والذين قالوا ربنا الله ثم إستقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى توعدون "
هذه قصة أحد التابعين وهو سلمة بن دينار المعروف بأبي حازم الأعرج التى نرجو أن نأخذ منها العظة والعبرة إخوتى فى الله
في السنة السابعة والتسعين للهجرة شدَّ الخليفة سليمان بن عبد الملك الرحال إلى الديار المقدَّسة ملبياً نداء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، ومضت ركائبه تحثُّ الخُطى من دمشق عاصمة الأمويين إلى المدينة المنوَّرة التي وصلها وجلس فيها لاستقبال علمائها ، وأعيانها ، وعَلِيَّةِ قومها ولمَّا فرغ سليمان بن عبد الملك من استقبال المُرَحِّبين به قال لبعض جلسائه: " إنَّ النفوس لتصدأ كما تصدأ المعادن إذا لم تجد من يذكِّرها الفينة بعد الفينة ، ويجلو عنها صدأها " فقالوا : " نعم يا أمير المؤمنين " فقال : " أما في المدينة رجلٌ أدرك طائفةً من صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُذَكِّرنا ؟ هل في هذه المدينة المنوَّرة رجل أدرك أصحاب رسول الله يذكِّرنا ؟ قالوا : "بلى يا أمير المؤمنين " ـ لو قالوا : نعم أي لا يوجد ـ "أليس في المدينة رجلٌ أدرك أصحاب رسول الله ؟ " .. إذا قالوا : نعم أي ليس في المدينة أحد ، نعم تفيد إثبات النفي ، لكن بلى تفيد نفي النفي ، ونفي النفي إثبات ، دقيقةٌ جداً ، في القرآن الكريم :
( سورة الأعراف : من آية " 172 " )
لو أنهم قالوا : نعم, لكفروا ، لو أنهم قالوا نعم أي لست ربنا ، دقيقة جداً اللُغة. فقال : " أليس في المدينة رجلٌ أدرك في المدينة رجلٌ أدرك طائفةَ من أصحاب رسول الله يذكِّرنا ؟ " فقالوا : " بلى يا أمير المؤمنين ، ها هنا أبو حازمٍ الأعرج " فقال : " ومن أبو حازم الأعرج ؟ " فقالوا : "عالِم المدينة ، وإمامها ، وأحد التابعين الذين أدركوا عدداً من الصحابة الكرام " فقال : "ادعوه لنا وتلطَّفوا في دعوته " . فذهبوا إليه ، ودعوه ، تلطَّفوا في دعوته ، فلمَّا أتاه ، رحَّب به ، وأدنى مجلسه وقال له معاتباً : " ما هذا الجفاء يا أبا حازم ؟ " أي لم تأت للتسليم علي .. ما هذا الجفاء يا أبا حازم ؟ .. فقال : " وأي جفاءٍ رأيت مني يا أمير المؤمنين ؟ " فقال : "زارني وجوه الناس ولم تزرنِي " فقال: " يا أمير المؤمنين إنَّما يكون الجفاء بعد المعرفة ، وأنت ما عرفتني قبل اليوم ، ولا أنا رأيتك ، فأي جفاءٍ وقع مني " كلامٌ واضحٌ كالشمس عندئذٍ قال الخليفة لجُلسائه : " والله أصاب الشيخ في اعتذاره ، وأخطأ الخليفة في عِتابه " ثمَّ التفت إلى أبي حازم ، وقال : " إنَّ في النفس شؤوناً أحببت أن أُفضي بها إليك يا أبا حازم " فقال : " هاتها يا أمير المؤمنين والله المستعان " . إذا سألك واحد سؤالا فاستعن بالله ، إذا شعرت أنه بإمكانك أن تجيبه عن سؤاله وأنت واثقٌ من علمك ، فهذا هو الجهل بعينه ، لأن الله عزَّ وجل يقول :
( سورة الإسراء )
إذا سألك واحد سؤالا فعوِّد نفسك هذه الطريقة ، استعن بالله بقلبك ، يا رب أعني على أن أجيبه ، لا تخزني أمامه ، علِّمني أن أجيبه . فقال : " هاتها يا أمير المؤمنين والله المستعان " فقال الخليفة : " يا أبا حازم لِمَ نكره الموت ؟ " سؤال : ما من الناس واحد إلا ويكره الموت ، فإذا شعر أن في جسمه بعض العِلَل الخطرة ترتعد فرائصه ، هكذا حال معظم الناس فقال : " يا أبا حازم لمَ نكره الموت ؟ " . فقال أبو حازم : " لأنكم عمَّرتم الدنيا ، وخرَّبتم الآخرة " فهو جوابٌ واضحٌ كالشمس ، عمَّرتم الدنيا ، زخرفتموها ، بنيتم البيوت الفخمة ، فرشتموها بالأثاث الوثير ، جعلتم أعمالكم فيها أبَّهة وعظمة ، كوَّنتم مكاناً اجتماعياً ، ودخلاً كبيراً ، فوالله الموت صعب جداً . فقال : " صدقت ، ولكن يا أبا حازم ما لنا عند الله غداً ؟ ما مكاننا ؟ ما موقعنا ؟ ما رُتْبَتُنا ؟ ". فقال : " اعرض عملك على كتاب الله عزَّ وجل تجد جواب ذلك " . قال : " وأين أجد في كتاب الله تعالى ؟ " قال : تجده في قوله تعالى:
( سورة الانفطار )
كلامٌ واضحٌ كالشمس ..
إذا كنت باراً فأنت في نعيم بعد الموت .
فقال : " يا أبا حازم إذاً فأين رحمة الله ؟ " . فقال أبو حازم : " إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين " هل أنت محسن حتَّى تَنَالَكَ رحمة الله؟ إنها قريبةٌ من المحسنين . فقال : " يا أبا حازم ليت شعري كيف القدوم على الله تعالى ؟ " . فقال أبو حازم : " أمَّا المحسن فكالغائب يقدم على أهله " تصوَّر إنسانًا يدرس في بلد أجنبي ، وله أهل في بحبوبة كبيرة ، ويحبّونه حُبَّاً جمَّاً ، وعلموا أنه سيأتي بعد أسبوعين ، فيصبح البيت كلُّه عيد ، تصنع له أمُّه أَلَذَّ الأكلات ، تُهَيَّؤ له غرفةٌ فيها ما لَذَّ وطاب .. أما المحسن فكالغائب يعود إلى أهله .. كلامٌ بليغ ، فقال : " وأما المسيء فكالعبد الآبق يُساق إلى مولاه " العبد الهارب، أُلقي القبض عليه ، واقتادوه إلى مولاه ليلقى جزاء عمله ، لذلك قال الله تعالى :
( سورة القصص ) أُلقي القبض عليه ، وسيق مخفوراً إلى التحقيق ، المُتَّقون يأتون يوم القيامة وفداً ..
( سورة مريم )
المُجْرِم يُساق سوقاً لأنه متهم ، فبكى الخليفة حتَّى علا نحيبه ، واشتدَّ بكاؤه ثم قال : " يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح ؟ " . فقال : " تدعون عنكم الصَلَف ، وتتحلَّوْنَ بالمروءة " . فقال الخليفة : " وهذا المال ، ما السبيل إلى تقوى الله فيه ؟ " . فقال أبو حازم : " إذا أخذتموه بحقِّه ، ووضعتموه في أهله ، وقسَّمتموه بالسويَّة ، وعدلتم فيه بين الرعيَّة " . فقال الخليفة : " يا أبا حازم أخبرني عن أفضل الناس " . فقال : " أهل المروءة والتُقى " . فقال : " وما أعدل القول ؟ " . قال : " كلمة حقٍ يقولها المرء عند من يخافه ، وعند من يرجوه " . قال : " ما أسرع الدعاء إجابةً ؟ " . قال : " دعاء المحسن للمحسنين " . قال : " ما أفضل الصدقة ؟ " . قال: " جُهْدُ المُقِل ـ المقل هو قليل المال ـ يضعه في يد البائس من غير أن يتبعه مَنَّاً ولا أذى" . فقال : " من أكيس الناس ؟ ـ من أعقل الناس ؟ ، " . قال : " رجلٌ ظَفِرَ بطاعة الله تعالى ، فعمل بها ، ثمَّ دلَّ الناس عليها " ظَفِرَ ، أي ظفرَ بها أولاً ، ودلَّ الناس عليها ثانياً . فقال : " فمن أحمق الناس ؟ " . قال : "رجلٌ انساق مع هوى صاحبه ، وصاحبه ظالمٌ ، فباع آخرته بدنيا غيره " . فقال الخليفة : " هل لك أن تصحبنا يا أبا حازم فتصيب منَّا ، ونصيب منك ؟ " أي تستفيد من مالنا ، ونستفيد من علمك . فقال : " كلا يا أمير المؤمنين " هذه كلا لها معنى دقيق في اللغة ، ليس معناها لا ؛ بل كلا أداة ردع . قال: " ولِمَ ؟ " . قال : " أخشى أن أركن إليكم قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات " . قال : " ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم " ، فسكت ولم يجب . فأعاد عليه قوله : " ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم نقضها لك مهما كانت " . فقال : " حاجتي أن تنقذني من النار ، وأن تدخلني الجنَّة " . فقال : " هذا ليس من شأني " . فقال : " إذاً ليس لي إليكَ حاجة " إذا كان هذا ليس من شأنك إذاً ليس لي إليكَ حاجة . فقال : " ادع لي يا أبا حازم " .
فقال : " اللهمَّ إن كان عبدك سليمان من أوليائك فَيَسِّره إلى خَيْرَي الدنيا والآخرة ، وإن كان من أعدائك فأصلحه ، واهده إلى ما تحبُّ وترضى " . فقال رجل : " بئس ما قلت منذ دخلت على أمير المؤمنين ، فلقد جعلت خليفة المسلمين من أعداء الله ، وآذيته " . قال أبو حازم : " بل بئس ما قلت أنت ، فلقد أخذ الله على العلماء الميثاق بأن يقولوا كلمة الحق فقال :
( سورة آل عمران: من آية " 187 " )
ثمَّ التفت إلى الخليفة وقال : " يا أمير المؤمنين إن الذين مَضَوْا قبلنا من الأمم الخالية ظلوا في خيرٍ وعافية ما دام أمراؤهم يأتون علماءهم رغبةً فيما عندهم ، ثمَّ وجِدَ قومٌ من أراذل الناس تعلَّموا العلم ، وأتوا به الأمراء يريدون أن ينالوا به شيئاً من عَرَض الدنيا ، فاستغنت الأمراء عن العلماء ، فتعسوا ، ونكسوا ، وسقطوا من عين الله عزَّ وجل ، ولو أن العلماء زهدوا فيما عند الأمراء لرغب الأمراء في علمهم ، ولكن رغبوا فيما عند الأمراء فزهدوا في علمهم ، وهانوا عليهم " . فقال الخليفة : " صدقت ، زدني من موعظتك يا أبا حازم ، فما رأيت أحداً الحكمة أقرب إلى فمه منك " . فقال : " إن كنت من أهل الاستجابة فقد قلت لك ما فيه الكفاية ، وإن لم تكن من أهلها فما ينبغي لي أن أرمي عن قوسٍ ليس لها وتر " . فقال الخليفة : " عزمت عليك أن توصيني يا أبا حازم " ، أوصني . فقال : " نعم سوف أوصيك ، وأوجز عَظِّم ربَّك ، ونَزِّهه أن يراك حيثُ نهاك ، وأن يفتقدك حيث أمرك " ثمَّ سلَّم وانصرف . فقال الخليفة : "جزاك الله خيراً من عالمٍ ناصح " . وما كاد أبو حازم يبلغ بيته حتَّى وجد أن أمير المؤمنين قد بعث إليه بصرَّةٍ مُلئت دنانير ، وكتب إليه يقول : " أنفقها ، ولك مثلها كثيرٌ عندي "، فردَّها ، وكتب إليه يقول : " يا أمير المؤمنين أعوذ بالله أن يكون سؤالك إيَّاي هزلاً ، وردي عليك باطلاً ، فوالله ما أرضى ذلك لكَ فكيف أرضاه لنفسي ؟! يا أمير المؤمنين إن كانت هذه الدنانير لقاء حديثي الذي حدَّثتك به ، فالميتة ، ولحم الخنزير في حال الاضطرار أَحَلُّ منها ، وإن كانت حقَّاً لي من بيت مال المسلمين فهل سَوَّيت بيني وبين الناس جميعاً في هذا الحق؟ " . هذا أحد التابعين الأكارم ، واسمه أبو حازم واسمه الأصلي سلمة بن دينار ارجو ان تكونوا قد وصلتكم ما ترمى إليه مقالتنا تلك وأن يجعلنا من المتمسكين بكتاب الله الكريم ومن التابعين لهدي رسوله الحبيب صلوات ربى وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وكل من تبعهم بإحسان الى يوم الدين __